يقول المصنف: (هذا بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم، أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته) إذاً كلمة (لا إله إلا الله) ليست قولاً باللسان، وإلا لكان كل من قالها نجا، وليس الأمر ألفاظاً وعبارات تقال، حتى عند أول قولها، فمن الناس من يقولها عن إيمان و يقين وإخلاص وصدق يبلغ بها درجات عليا في الإيمان، ومنهم من يقولها وهو متعوذ بها من القتل على ضعف من الإيمان وهو كاره، كما جاء في الحديث لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي: (
أسلم؟ قال: أجدني كارهاً )، أي: لا يطمئن أن يؤمن، فقال: (
أسلم ولو كارهاً ) أي: أرغم نفسك، ففرق بين من يرغم نفسه ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وليس مستيقناً بها، وبين من يقولها عن يقين وإخلاص وصدق، واللفظ واحد، لكن التفاوت عظيم، وبالنسبة لنورها وحقيقتها في قلب هذا القائل، فكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته، ولذلك أقوى الناس في هذا الصحابة رضي الله عنهم، إذ ما صمدت أمامهم شهوة ولا شبهة رضي الله عنهم، بل كانت حياتهم ودعوتهم وجهادهم لله سبحانه وتعالى على أعلى الدرجات، والتنافس على أداء ما أمر الله واجتناب ما حرم الله، والتسابق والمسارعة في مرضاة الله؛ لأن عندهم هذا النور وهذا اليقين وهذا الإيمان، أما من جاء بعدهم فكثير منهم يرضى بالحد الأدنى أو الأقل، فهو مؤمن مسلم يؤدي الفرائض -مثلاً- ويرى أن هذا يكفيه، ولهذا قد يضعف أمام الشهوة أو الشبهة والعياذ بالله، وآفة القلوب في هذين: إما شهوة وإما شبهة، فالشبهة تعمي صاحبها عن الحق فيعتقد خلاف الحق فيقع في البدع، وربما أفضت به إلى الشرك والكفر والعياذ بالله، والشهوة تعمي صاحبها عن الطاعة والاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى، وربما أفضت به إلى أن يستحل ما حرم الله أيضاً فيخرج من دين الله والعياذ بالله، والمعافى من عافاه الله، فسلم من داء الشبهات والشهوات؛ ولذا يقول المصنف: (بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده، فسماء إيمانه قد حرست بالرجوم من كل سارق) أي: يشبه إيمانه مثل السماء المحروسة التي فيها رجوم للشياطين من كل جانب، فأينما جاءت الشهوة أو الشبهة من الشيطان أتبعها شهاب ثاقب يقضي عليها، أي: يطلق عليها من أنوار هذا الإيمان ما يقضي عليها، وليست القضية أن الإنسان لا يتعرض لشبهة أو لشهوة، لكنه إذا تعرض لها فإن هذه الأنوار تقضي عليها، وإلا فلا بد أن يتعرض الإنسان للشهوة أو الشبهة، ولا بد أن يبتلى، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى ليميز الخبيث من الطيب، وليظهر الصادق من الكاذب، قال تعالى: ((
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ))[العنكبوت:3]، وفي آية أخرى: ((
وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ))[العنكبوت:11]، فلا بد من ذلك، وهذا من حكمة الله، أن يظهر ذلك بهذه الامتحانات والابتلاءات، فالمؤمن كلما جاءت شهوة أو شبهة قذفها بهذا الشهاب الثاقب فقضى عليها -والحمد لله- فيزداد إيمانه، ويكون حاله قبل ورود الشهوة أو الشبهة أقل، ويصبح حاله بعد ورودها وردها أقوى منه قبل ذلك، وأما ضعيف الإيمان والعياذ بالله فإن الشهوة أو الشبهة إما أن يختطفه شيطانها وإما أن يضعف إيمانه، وإذا طمع فيك عدو الله من أول مرة فإنه يكاد أن يدركك، ولهذا يجب على الإنسان أن يتحصن دائماً بالله من شره بالأذكار وبالاستقامة؛ لأن هذا العدو كعدوك من الإنس بل أشد، فمن الناس من لا يمكن أن يأتيه الشيطان من جهة الصلاة -مثلاً- فيقول له: أهمل الصلاة، بل ما يكاد المؤذن يؤذن إلا وقد استعد لها، وخرج وذهب إلى المسجد، لكن وجد عنده الضعف من ناحية المال، فقد يتهاون في أخذ الحرام من ربا أو شبهة أو غيرها، فيطمع عدو الله فيه، ويعلم أنه من هاهنا يمكن أن يصيب مقتلاً فيهلكه، فيبدأ معه قليلاً قليلاً، وقد يصمد الإنسان أمام الأموال، لكنه يضعف أمام شهوة النساء والعياذ بالله فيفتن، فتجده لو عرضت عليه الدنيا كلها كما قال بعض السلف لأمن على نفسه، لكن لا آمن من عجوز شمطاء بنت ثمانين عاماً، أي: يخاف على نفسه من جهة النساء، أما الأموال فمهما كثرت، سواء كانت رشاوى أو ما يسمونها فوائد فهي حرام لا يأخذها، لكن هناك نقطة ضعف يأتيه الشيطان دائماً منها، وبعض الناس ضعفه من جهة الصداقة والعلاقة، فوحده ما شاء الله ومع المؤمنين ما شاء الله، لكن إذا خالط ضعاف الإيمان لم يستطع أن يقاومهم، ولا يستطيع أن يعادي أولئك، بل ربما داهنهم وجاراهم وماشاهم في بعض الأمور، فيأتيه الشيطان من هذا فيسلط عليه أولياءه؛ لأنه يعلم أنه من هاهنا يمكن أن يهلك، ومن هاهنا يمكن أن يؤتى، وهكذا فلا يأمن الإنسان من ورود الشبهة أو الشهوة، ومن هنا كان حرص السلف الصالح رضوان الله عليهم على تقوية إيمانهم، فيقوي إيمانه دائماً؛ لأنه عرضة للضعف، فإذا جاء لم يجد محلاً قابلاً، بل وجد الرد والرفض.